ما أصعب أسئلة دوستويفسكي !
" لا بد لكل إنسان من أن يجد و لو مكاناً واحداً يذهبُ إليه ، لأن الإنسان تمر به لحظات لا مناص له فيها من الذهاب إلى مكان ما ، إلى أي مكان !
هل تدرك يا صديقي ، هل تدرك ما معنى أن لا يكون للإنسان مكان يذهب إليه ؟"
.
هذا الكلام و هذا السؤال المؤلم حقا ، ورد على لسان مارميلادوف في رواية دوستويفسكي الخالدة ، الجريمة و العقاب .
.
تمتاز كلمات دوستويفسكي بأنها صالحة لنسقطها على الكثير من المواقف في حياتنا ، و حتى على قدرتها على تلخيص حياة انسان تلخيصا كاملا لتصبح هي العنوان لحياة أحدنا و بمنتهى السهولة !
.
دعنا يا صديقي نعيد طرح السؤال بعيدا عن مجريات القصة و بعيدا حتى عن شخصية مارميلادوف ، فقط نكتفي بالسؤال و نعيد طرحه في وقتنا الراهن .
.
هل تدرك ما معنى أن لا يكون للإنسان مكان يذهب إليه ؟
.
المقصود هنا بلا شك ، يا صديقي العزيز ليس بالضرورة مكان جغرافي ، بل من المؤكد أنه ليس مكان جغرافي ، و إنما مكان في قلب أحدهم . شخص يكون لك الملجأ و ينجح في إحتواء كل ما تمر به .
.
و هل عدم وجود هذا الشخص مؤلم ؟ هل يهم كثيرا ؟ أهو أمر ضروري ؟
علينا أن نسأل شخص من أبناء جيلنا ، مر بأزمة ما ، ففتح قفل هاتفه النقال ليتصل بأحد ما ، ليتكلم معه ، يحدثه عما يجري معه فلم يوافقه قلبه على اختيار شخص واحد !!
شخص واحد فقط من بين 300 رقم محفوظ في الهاتف ...لم يجده !
لك أن تتخيل صعوبة الأمر ، أو تعتبره مجرد ... مراهقة عاطفية !
.
صورة أخرى ، دعنا نسأل " فتاة أو شاب " من شباب اليوم الذي يقضي أغلب وقته في مواقع التواصل و عنده الآن 5000 صديق ، و عندما ضاقت الدنيا به ، عرف أنهم عدد لا أكثر ... و بقي قلبه فريسة للوحدة و غياب المستمع .
.
صورة أصعب و تظهر عظمة دوستويفسكي بشكل أوضح ، هذا السؤال و الذي طرحه مارميلادوف على بطل الجريمة و العقاب " راسكولينكوف " كان في الحانة ، أي أن البوح و خروج الكلام من القلب و بهذه الشفافية كان لشخص غريب و ليس لشخص من داخل أسرة مارميلادوف المتعبة أصلا .
و الان ، هل تعرف معنى أن يكون أهل بيتك هم أقل الناس قدرة على فهمك ؟ هل تعلم حجم الجحيم الذي يعانيه شخص يخفي ما بداخله عن أهل بيته ؟
الخوف من الاستهزاء به ، أن ينبذوه ، أن يحاولوا إقناعه بالعكس ، أو ببساطة : ألا يهتموا من الأصل ؟
هل تعرف سيدي الكريم ما معنى ذلك كله ؟؟؟
.
هناك قصة لتشيخوف و اسمها "لمن أشكو كآبتي"، عن حوذي ابنه مات ، و لا يجد أحد في الدنيا، يحكي له عن ابنه، كلما ركب معه في العربة أحد ، يقول له
- هل تعلم..بالمناسبة..ابني مات هذا الأسبوع
ولا يلتفت له الراكب ، يحاول مرة أخرى أن يثير انتباهه
- إنها الحمى، رقد ثلاثة أيام في المستشفى ثم مات
لا يلتفت له الراكب بل يقول له: هيا أسرع لنصل بسرعة .
وجود مهدر لهذا الكائن الضعيف، المقذوف به بعيدا عن هذا العالم، تم قطع جميع ما يربطه فعليا بالمجتمع و الناس، لا يربطه بهذا العالم إلا حكاية حزينة يريد فقط أن يحكيها، ولا يجد أحد ليحكيها، عندما يركب معه راكب جديد، يستغل أي حديث ليعيد مرة أخرى :
- هل تعلم..بالمناسبة ..ابني مات هذا الأسبوع
هذا الإنسان المهدر وجوده، مهدرة حكايته، مهدرة أحزانه، هؤلاء الذين يستغلون أي فرصة في المواصلات أو أي حدث ليحكوا مرة أخرى حكايتهم الوحيدة ،حكايتهم هي دليلهم الوحيد على أنهم وجدوا يوما، أنهم عاشوا فعلا، خائفون من هذا العالم، البارد والمتجاهل، العالم الذي لا يلقي لهم أي بال، عندما يتركه الراكبون الذين رفضوا الاستماع لحكايته
" يظل طويلا يحدق في أثر العابثين وهم يختفون في أثر المدخل ، وها هو وحيد من جديد، ويشمله السكون..والوحشة التي هدأت قليلا تعود تطبق على صدره أقوى مما كان، وعيناه تدور في الآلاف العابرة: ألا يوجد في هذه الآلاف من يستمع إليه ؟
و لكن الجموع تسير دون أن تلاحظه، أو تلاحظ وحشته، وحشة هائلة لا حدود لها، وحشة لو أطلقت على العالم لأغرقته، مع هذا لا يلاحظها أحد"
يسير الآلاف في الشوارع كوجوه مدبرة، وجوه بلا عيون حقيقية، وجوه بلا ملامح، تحتك به عن غير عمد ثم تكمل طريقها، يحاول أن ينبش هذه الوجوه ليكتشف وجهها الإنساني الآخر، أو تكتشفه هي، ولكن لا شئ، لا أحد يستمع إليه، بل ربما كان وجهه هو إلى الداخل، لقد أهدره العالم للأبد، حكم عليه بأن يشاهد موته قبل أن يموت، عبور التاريخ على جثته، لن يستمع إليه أحد، هذه الكائنات المعذبة الحزينة القلقة والخائفة من هذا العالم الوحشي البارد، التي تنضم لأي جمع تحتك به لتحس بأي دفء ، أي دفء زائف، أي استماع غير مبالي لحكايتها، المتحمسون لأي نقاش، لمجرد أنه يوجد من يناقشونه أخيرا، أن هناك اعتراف ولو مؤقت بوجودهم، يرفعون أيديهم ويصرخون لجذب انتباه أي أحد، يدخلون معارك عبثية مع الناس، حتى لو تم ضربهم و سبهم، يعدون هذا اعترافا بوجودهم، فضلا عن الدفء الذي يأتي بعد الضرب، يبتسمون بعد عودتهم لو شتمهم أحد، أو ضربهم، و إن لم يظلوا ينظرون للجموع الغفيرة التي تستحيل وحوشا، لا تلقي لهم بالا، و يموتون دون أن يجدوا من يشكون لهم كآبتهم، كائنات مهدرة !
.
هل هكذا هي فعلا حياتنا ؟ الهذه الدرجة بلغت بنا العزلة ؟ يجيب دوستويفسكي :
.
"العزلة التي يعيش فيها البشر ، و تتجلى في جميع الميادين و لا سيما في عصرنا هذا. إن عصر العزلة هذا لم ينته ، حتى أنه لم يصل الى ذروته. إن كل انسان في هذا العصر يجهد في سبيل أن يتذوق الحياة كاملة مبتعدا عن أقرانه ، ساعيا الى السعادة الفردية. و لكن هيهات أن تؤدي هذه الجهود الى تذوق الحياة كاملة ، فهي لا تقود إلا الى فناء النفس فناء كاملا ، و لا تقود إلا الى نوع من الانتحار الروحي بعزلة خانقة. لقد انحل المجتمع في عصرنا الى أفراد يعيش كل منهم في جحره كوحش ، و يهرب بعضهم من بعض ، و لا يفكرون الا في أن يخفوا ثرواتهم عن بعض. و هم يصلون من ذلك الى أن يكره بعضهم بعضا و الى أن يصبحوا جديرين بالكره هم أيضا.
.
نصيحته لك ، ابحث عن ملجأ فأنت ستحتاجه ما دامت الحياة ساحة حرب مستمرة .
.
كيف يمكن أن يكون أحدهم مكانا أذهب اليه ؟
ستصبح مكانا لي ، و ملجأ لي بالفعل ، عندما أجدك دون أن أضطر للنداء ، تأتي قبل أن ألوّح ، الحب أن يسبق سؤالك دمعي ، وصوتك حاجتي ، الحب أن تُعطي لأنك تريد لا لأني أريد.
.
و ما أشد قناعة دوستويفسكي حين يطلقها للعلن مدوية و بأقوى صوته ، مكتفيا بإنسان واحد فقط بشرط أن تتوفر فيه ميزة يعتبرها الأكثر أهمية :
.
"معكِ أستطيع أن أتكلم في كل شيء، في كل شيء، حتى في أخطر الأمور شأناً إذا حلا لي ذلك، وعليك أنت من جهتك أن لا تخفي عني شيئاً في يوم من الأيام، أريد أن يكون هناك إنسان ، على الأقل، أستطيع أن أكلمه في كل شيء كأنني أكلم نفسي .